سورة ص - تفسير في ظلال القرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


هذه السورة مكية، تعالج من موضوعات السور المكية قضية التوحيد، وقضية الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم وقضية الحساب في الآخرة. وتعرض هذه القضايا الثلاث في مطلعها الذي يؤلف الشوط الأول منها. وهو الآيات الكريمة التي فوق هذا الكلام. وهي تمثل الدهش والاستغراب والمفاجأة التي تلقى بها كبار المشركين في مكة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم إلى توحيد الله؛ وإخبارهم بقصة الوحي واختياره رسولاً من عند الله: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم. وقال الكافرون هذا ساحر كذاب، أجعل الآلهة إلهاً واحداً: إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق. أأنزل عليه الذكر من بيننا؟}.. كما تمثل استهزاءهم واستنكارهم لما أوعدهم به جزاء تكذيبهم من عذاب: {وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}..
لقد استكثروا أن يختار الله سبحانه رجلاً منهم، لينزل عليه الذكر من بينهم. وأن يكون هذا الرجل هو محمد بن عبدالله. الذي لم تسبق له رياسة فيهم ولا إمارة! ومن ثم ساءلهم الله في مطلع السورة تعقيباً على استكثارهم هذا واستنكارهم وقولهم: {أأنزل عليه الذكر من بيننا} ساءلهم: {أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟ فليرتقوا في الأسباب}.. ليقول لهم: إن رحمة الله لا يمسكها شيء إذا أراد الله أن يفتحها على من يشاء. وإنه ليس للبشر شيء من ملك السماوات والأرض، وإنما يفتح الله من رزقه ورحمته على من يشاء. وإنه يختار من عباده من يعلم استحقاقهم للخير، وينعم عليهم بشتى الإنعامات بلا قيد ولا حد، ولا حساب.. وفي هذا السياق جاءت قصة داود وقصة سليمان؛ وما أغدق الله عليهما من النبوة والملك، ومن تسخير الجبال والطير، وتسخير الجن والريح، فوق الملك وخزائن الأرض والسلطان والمتاع.
وهما مع هذا كله بشر من البشر؛ يدركهما ضعف البشر وعجز البشر؛ فتتداركهما رحمة الله ورعايته، وتسد ضعفهما وعجزهما، وتقبل منهما التوبة والإنابة، وتسدد خطاهما في الطريق إلى الله.
وجاء مع القصتين توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على ما يلقاه من المكذبين، والتطلع إلى فضل الله ورعايته كما تمثلها قصة داود وقصة سليمان: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب... الخ}..
كذلك جاءت قصة أيوب تصور ابتلاء الله للمخلصين من عباده بالضراء. وصبر أيوب مثل في الصبر رفيع. وتصور حسن العاقبة، وتداركه برحمة الله، تغمره بفيضها، وتمسح على آلامه بيدها الحانية.
وفي عرضها تأسية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، عما كانوا يلقونه من الضر والبأساء في مكة؛ وتوجيه إلى ما وراء الابتلاء من رحمة، تفيض من خزائن الله عندما يشاء.
وهذا القصص يستغرق معظم السورة بعد المقدمة، ويؤلف الشوط الثاني منها.
كذلك تتضمن السورة رداً على استعجالهم بالعذاب، وقولهم: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}.. فيعرض بها بعد القصص مشهد من مشاهد القيامة، يصور النعيم الذي ينتظر المتقين. والجحيم التي تنتظر المكذبين. ويكشف عن استقرار القيم الحقيقية في الآخرة بين هؤلاء وهؤلاء. حين يرى الملأ المتكبرون مصيرهم ومصير الفقراء الضعاف الذين كانوا يهزأون بهم في الأرض ويسخرون، ويستكثرون عليهم أن تنالهم رحمة الله، وهم ليسوا من العظماء ولا الكبراء. وبينما المتقون لهم حسن مآب {جنات عدن مفتحة لهم الأبواب، متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب. وعندهم قاصرات الطرف أتراب} فإن للطاغين لشر مآب {جهنم يصلونها فبئس المهاد. هذا فليذوقوه حميم وغساق، وآخر من شكله أزواج} وهم يتلاعنون في جهنم ويتخاصمون، ويذكرون كيف كانوا يسخرون بالمؤمنين: {وقالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدُّهم من الأشرار. أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار؟} فإنهم لا يجدونهم في جهنم. وقد عُرف أنهم هنالك في الجنان! فهذا هو جواب ذلك الاستعجال والاستهزاء!
وهذا المشهد يؤلف الشوط الثالث في السورة.
كما يرد على استنكارهم لما يخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الوحي. ويتمثل هذا الرد في قصة آدم في الملأ الأعلى. حيث لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم حاضراً؛ إنما هو إخبار الله له بما كان، مما لم يشهده غير آدم إنسان وفي ثنايا القصة يتبين أن الذي أردى إبليس، وذهب به إلى الطرد واللعنة، كان هو حسده لآدم عليه السلام واستكثاره أن يؤثره الله عليه ويصطفيه. كما أنهم هم يستكثرون على محمد صلى الله عليه وسلم أن يصطفيه الله من بينهم بتنزيل الذكر؛ ففي موقفهم شبه واضح من موقف إبليس المطرود اللعين!
وتختم السورة بختام هذا الشوط الرابع والأخير فيها؛ بقول النبي صلى الله عليه وسلم لهم: إن ما يدعوهم إليه لا يتكلفه من عنده، ولا يطلب عليه أجراً، وإن له شأناً عظيماً سوف يتجلى: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين. إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين} هذه الأشواط الأربعة التي تجري بموضوعات السورة هذا المجرى؛ تجول بالقلب البشري في مصارع الغابرين، الذين طغوا وتجبروا واستعلوا على الرسل والمؤمنين، ثم انتهوا إلى الهزيمة والدمار والخذلان: {جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب. كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد.
وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب. إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب}..
تعرض على القلب البشري هذه الصفحة. صفحة الهزيمة والدمار والهلاك للطغاة المكذبين. ثم تعرض بإزائها صفحة العز والتمكين والرحمة والرعاية لعباد الله المختارين، في قصص داود وسليمان وأيوب.
هذا وذلك في واقع الأرض.. ثم تطوف بهذا القلب في يوم القيامة وما وراءه من صور النعيم والرضوان. وصور الجحيم والغضب. حيث يرى لوناً آخر مما يلقاه الفريقان في دار البقاء. بعدما لقياه في دار الفناء..
والجولة الأخيرة في قصة البشرية الأولى وقصة الحسد والغواية من العدو الأول، الذي يقود خطى الضالين عن عمد وعن سابق إصرار. وهم غافلون.
كذلك ترد في ثنايا القصص لفتة تلمس القلب البشري وتوقظه إلى الحق الكامن في بناء السماء والأرض. وأنه الحق الذي يريد الله بإرسال الرسل أن يقره بين الناس في الأرض. فهذا من ذلك: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً} وهي لفتة لها في القرآن نظائر. وهي حقيقة أصيلة من حقائق هذه العقيدة التي هي مادة القرآن المكي الأصيلة..
والآن نأخذ في التفصيل..
{ص؟ والقرآن ذي الذكر. بل الذين كفروا في عزة وشقاق. كم أهلكنا من قبلهم من قرن، فناداوا ولات حين مناص}..
هذا الحرف.. صاد يقسم به الله سبحانه كما يقسم بالقرآن ذي الذكر. وهذا الحرف من صنعة الله تعالى. فهو موجده. موجده صوتاً في حناجر البشر؛ وموجده حرفاً من حروف الهجاء التي يتألف من جنسها التعبير القرآني. وهي في متناول البشر ولكن القرآن ليس في متناولهم لأنه من عند الله. وهو متضمن صنعة الله التي لا يملك البشر الإتيان بمثلها لا في القرآن ولا في غير القرآن. وهذا الصوت.. صاد.. الذي تخرجه حنجرة الإنسان. إنما يخرج هكذا من هذه الحنجرة بقدرة الخالق المبدع، الذي صنع الحنجرة وما تخرجه من أصوات. وما يملك البشر أن يصنعوا مثل هذه الجنجرة الحية التي تخرج هذه الأصوات! وإنها لمعجزة خارقة لو كان الناس يتدبرون الخوارق المعجزة في كل جزئية من جزئيات كيانهم القريب! ولو عقلوها ما دهشوا لوحي يوحيه الله لبشر يختاره منهم. فالوحي ليس أكثر غرابة من إيداع تكوينهم هذه الخصائص المعجزات!
{صاد. والقرآن ذي الذكر}..
والقرآن يشتمل الذكر كما يشتمل غيره من التشريع والقصص والتهذيب.. ولكن الذكر والاتجاه إلى الله هو الأول. وهو الحقيقة الأولى في هذا القرآن. بل إن التشريع والقصص وغيرهما إن هي إلا بعض هذا الذكر. فكلها تذكر بالله وتوجه القلب إليه في هذا القرآن. وقد يكون معنى ذي الذكر. أي المذكور المشهور. وهو وصف أصيل للقرآن:
{بل الذين كفروا في عزة وشقاق}..
وهذا الإضراب في التعبير يلفت النظر.
فهو يبدو كأنه انقطاع عن الموضوع الأول. موضوع القسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. هذا القسم الذي لم يتم في ظاهر التعبير. لأن المقسم عليه لم يذكر واكتفى بالمقسم به ثم أخذ يتحدث بعده عن المشركين. وما هم فيه من استكبار ومن مشاقة. ولكن هذا الانقطاع عن القضية الأولى هو انقطاع ظاهري، يزيد الاهتمام بالقضية التي تليه. لقد أقسم بصاد وبالقرآن ذي الذكر. فدل على أنه أمر عظيم، يستحق أن يقسم به الله سبحانه. ثم عرض إلى جانب هذا استكبار المشركين ومشاقتهم في هذا القرآن. فهي قضية واحدة قبل حرف الإضراب {بل} وبعده. ولكن هذا الالتفات في الأسلوب يوجه النظر بشدة إلى المفارقة بين تعظيم الله سبحانه لهذا القرآن، واستكبار المشركين عنه ومشاقتهم فيه. وهو أمر عظيم!
وعقب على الاستكبار والمشاقة، بصفحة الهلاك والدمار لمن كان قبلهم، ممن كذبوا مثلهم، واستكبروا استكبارهم، وشاقوا مشاقتهم. ومشهدهم وهم يستغيثون فلا يغاثون، وقد تخلى عنهم الاستكبار وأدركتهم الذلة، وتخلوا عن الشقاق ولجأوا إلى الاستعطاف. ولكن بعد فوات الأوان:
{كم أهلكنا من قبلهم من قرن، فنادوا، ولات حين مناص}!
فلعلهم حين يتملون هذه الصفحة أن يطامنوا من كبريائهم؛ وأن يرجعوا عن شقاقهم. وأن يتمثلوا أنفسهم في موقف أولئك القرون. ينادون ويستغيثون. وفي الوقت أمامهم فسحة، قبل أن ينادوا ويستغيثوا، ولات حين مناص. ولا موضع حينذاك للغوث ولا للخلاص!
يطرق قلوبهم تلك الطرقة، ويوقع عليها هذا الإيقاع قبل أن يعرض تفصيل تلك العزة وهذا الشقاق.. ثم يفصل الأمر ويحكي ما هم فيه من عزة وشقاق:
{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم، وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب! وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم. إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق}..
هذه هي العزة: {أأنزل عليه الذكر من بيننا}.. وذلك هو الشقاق: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً..؟}.. {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة..!}.. {هذا ساحر كذاب}.. {إن هذا إلا اختلاق}.. الخ. الخ..
وقصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة، مكرورة معادة، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات. وتكرر إرسال الرسل من البشر؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض:
{وعجبوا أن جاءهم منذر منهم}..
وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم. بشراً يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم، وما يشتجر في كيانهم، وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات..
بشراً يعيش بين البشر وهم منهم فتكون حياته قدوة لهم؛ وتكون لهم فيه أسوة.
وهم يحسون أنه واحد منهم، وأن بينهم وبينه شبهاً وصلة. فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه، ويدعوهم لاتباعه. وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته..
بشراً منهم. من جيلهم. ومن لسانهم. يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم. ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإياه. ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه. أو اختلاف لغته. أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته.
ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائماً موضع العجب، ومحط الاستنكار، وموضوع التكذيب! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة. وبدلاً من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله. كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التي لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة! كانوا يريدونها مثلاً خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس! وعندئذ يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة!
ولكن الله أراد للبشرية وبخاصة في الرسالة الأخيرة أن تعيش بهذه الرسالة عيشة طبيعية واقعية. عيشة طيبة ونظيفة وعالية، ولكنها حقيقة في هذه الأرض. لا وهماً ولا خيالاً ولا مثلاً طائراً في سماء الأساطير والأحلام! يعز على التحقيق ويهرب في ضباب الخيالات والأوهام!
{وقال الكافرون: هذا ساحر كذاب}..
قالوا كذلك استبعاداً لأن يكون الله قد أوحى إلى رجل منهم. وقالوه كذلك تنفيراً للعامة من محمد صلى الله عليه وسلم وتهويشاً على الحق الواضح في حديثه، والصدق المعروف عن شخصه.
والحق الذي لا مرية فيه أن كبراء قريش لم يصدقوا أنفسهم لحظة وهم يقولون عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي يعرفونه حق المعرفة: إنه ساحر وإنه كذاب! إنما كان هذا سلاحاً من أسلحة التهويش والتضليل وحرب الخداع التي يتقنها الكبراء؛ ويتخذونها لحماية أنفسهم ومراكزهم من خطر الحق الذي يتمثل في هذه العقيدة؛ ويزلزل القيم الزائفة والأوضاع الباطلة التي يستند إليها أولئك الكبراء!
ولقد نقلنا من قبل وننقل هنا واقعة الاتفاق بين كبراء قريش على استخدام حرب الدعاية ضد محمد صلى الله عليه وسلم والحق الذي جاء به، لحماية أنفسهم وأوضاعهم بين الجماهير في مكة. ولصد القبائل التي كانت تفد إلى مكة في موسم الحج، عن الدين الجديد وصاحبه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم وقد حضر الموسم.
فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا: نقول: كاهن. قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون. قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق، وإن فرعه لجناة. وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره..
فذلك كان شأن الملأ من قريش في قولهم: ساحر كذاب. وهم يعلمون أنهم يكذبون فيما يقولون. ويعرفون أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم بساحر ولا كذاب!
وعجبوا كذلك من دعوته إياهم إلى عبادة الله الواحد. وهي أصدق كلمة وأحقها بالاستماع:
{أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ منهم: أن امشوا واصبروا على آلهتكم، إن هذا لشيء يراد. ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق}..
ويصور التعبير القرآني مدى دهشتهم من هذه الحقيقة الفطرية القريبة.. {أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟} كأنه الأمر الذي لا يتصوره متصور! {إن هذا لشيء عجاب}.. حتى البناء اللفظي {عجاب} يوحي بشدة العجب وضخامته وتضخيمه!
كما يصور طريقتهم في مقاومة هذه الحقيقة في نفوس الجماهير، وتثبيتهم على ما هم عليه من عقيدة موروثة متهافتة. وإيهامهم أن وراء الدعوة الجديدة خبيئاً غير ظاهرها؛ وأنهم هم الكبراء العليمون ببواطن الأمور، مدركون لما وراء هذه الدعوى من خبيء! {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد}.. فليس هو الدين، وليست هي العقيدة، إنما هو شيء آخر يراد من وراء هذه الدعوة. شيء ينبغي أن تدعه الجماهير لأربابه، ولمن يحسنون فهم المخبآت وإدراك المناورات! وتنصرف هي إلى عادتها الموروثة، وآلهتها المعروفة، ولا تعني نفسها بما وراء المناورة الجديدة! فهناك أربابها الكفيلون بمقاومتها.
فلتطمئن الجماهير، فالكبراء ساهرون على مصالحهم وعقائدهم وآلهتهم!
إنها الطريقة المألوفة المكرورة التي يصرف بها الطغاة جماهيرهم عن الاهتمام بالشؤون العامة، والبحث وراء الحقيقة. وتدبر ما يواجههم من حقائق خطرة. ذلك أن اشتغال الجماهير بمعرفة الحقائق بأنفسم خطر على الطغاة، وخطر على الكبراء، وكشف للأباطيل التي يغرقون فيها الجماهير. وهم لا يعيشون إلا بإغراق الجماهير في الأباطيل!
ثم يموهون على الناس بظواهر العقيدة القريبة منهم. عقيدة أهل الكتاب. بعدما دخلت إليها الأساطير التي حرفتها عن التوحيد الخالص فيقولون:
{ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة. إن هذا إلا اختلاق}.
وكانت عقيدة التثليث قد شاعت في المسيحية. وأسطورة العزيز قد شاعت كذلك في اليهودية. فكبراء قريش كانوا يشيرون إلى هذا وهم يقولون: {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة}.. ما سمعنا بهذا التوحيد المطلق لله. الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فما يقول إذن إلا اختلاقاً!
ولقد حرص الإسلام حرصاً شديداً على تجريد عقيدة التوحيد وتخليصها من كل ما علق بها من الأساطير والأوشاب والانحرافات التي طرأت على العقائد التي سبقته. حرص هذا الحرص لأن التوحيد حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها هذا الوجود كله؛ ويشهد بهذا هذا الوجود شهادة واضحة أكيدة. ولأن هذا التوحيد في الوقت ذاته قاعدة لا تصلح الحياة البشرية كلها في أصولها وفروعها إلا إذا قامت عليها.
ويحسن ونحن نستعرض مقاومة قريش لهذه العقيدة ودهشتها وعجبها من جعل الآلهة إلهاً واحداً. ومقاومة المشركين قبل قريش على مدار القرون ومدار الرسالات لهذه الحقيقة كذلك. وإصرار كل رسول عليها، وقيام كل رسالة على أساسها. والجهد الضخم الذي بذل في إقرار هذه الحقيقة في نفوس البشر على مدار الزمان.. يحسن أن نتوسع قليلاً في بيان قيمة هذه الحقيقة.
إنها حقيقة أولية كبيرة يقوم عليها الوجود، ويشهد بها كل ما في الوجود..
إن وحدة النواميس الكونية التي تتحكم في هذا الكون الذي نراه واضحة؛ وناطقة بأن الإرادة التي أنشأت هذه النواميس لا بد أن تكون واحدة. وحيثما نظرنا إلى هذا الكون واجهتنا هذه الحقيقة، حقيقة وحدة النواميس. وحدة تشي بوحدة الإرادة.
كل ما في هذا الكون في حركة دائمة منتظمة.. الذرة الصغيرة وهي الوحدة الأولى لكل ما في الكون من شيء حي أو غير حي في حركة مستمرة. فهي مؤلفة من الكترونات تتحرك حول النواة المؤلفة من بروتونات. كما تدور الكواكب حول الشمس في المجموعة الشمسية. وكما تدور المجرة المؤلفة من مجموعات شمسية ومن كتل سديمية حول نفسها. واتجاه الدورة في الكواكب وفي الشمس وفي المجرة اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق. عكس دورة الساعة!.
والعناصر التي تتكون منها الأرض وبقية الكواكب السيارة واحدة. وعناصر النجوم هي كذلك من عناصر الأرض.
والعناصر مؤلفة من ذرات. والذرات مؤلفة من الكترونات وبروتونات ونيوترونات.. كلها مؤلفة من هذه اللبنات الثلاث بلا استثناء..
وفي الوقت الذي ترد فيه المادة إلى ثلاث لبنات. يرد العلماء القوى إلى أصل واحد: الضوء والحرارة. الأشعة السينية، الأشعة اللاسلكية، الأشعة الجيمية. وكل إشعاع في الدنيا.. كلها صور متعددة لقوة واحدة. تلك القوة المغناطيسية الكهربائية. إنها جميعاً تسير بسرعة واحدة، وما اختلافها إلا اختلاف موجة.
المادة ثلاث لبنات. والقوى موجات متأصلات.
ويأتي أينشتين وفي نظريته النسبية الخاصة، يكافئ بين المادة والقوى؛ ويقول: إن المادة والقوى شيء سواء. وتخرج التجارب تصدق دعواه. وخرجت تجربة أخيرة صدقت دعواه بأعلى صوت تسمعه الدنيا. ذلك انفلاق الذرة في القنبلة اليودينوتية.
المادة والقوى إذن شيء سواء.
هذه هي الوحدة في تكوين الكون كما عرفها الإنسان أخيراً في تجاربه المحسوسة.. وهناك الوحدة الظاهرة في نظام الكون كما أشرنا إلى قانون الحركة الدائبة. ثم هي الحركة المنظمة المنسقة التي لا يشذ فيها شيء في هذا الكون. ولا يضطرب فيها شيء.. توازن هذه الحركة في جميع الكائنات بحيث لا يعطل بعضها بعضاً ولا يصدم بعضها بعضاً. وأقرب مثل هذه الكواكب والنجوم والمجرات الضخمة التي تسبح في الفضاء: {وكل في فلك يسبحون} والتي تشهد بأن مجريها في هذا الفضاء، المنظم لحركتها وأبعادها ومواقعها واحد لا يتعدد، عارف بطبيعتها وحركتها. مقدر لهذا كله في تصميم هذا الكون العجيب.
ونكتفي بهذه اللمحة الخاطفة في تتبع حقيقة الوحدة التي ينطق بها نظام هذا الكون ويشهد بها كل ما فيه.
وهي حقيقة لا يستقيم أمر هذه البشرية إلا عليها. فوضوح هذه الحقيقة في الضمير البشري ذو أهمية بالغة في تصور البشر للكون من حولهم، ولموضعهم هم في هذا الكون، ولعلاقتهم بكل ما فيه من أشياء وأحياء. ثم في تصورهم لله الواحد ولحقيقة ارتباطهم به، وبما عداه ومن عداه في هذا الوجود.. وكل ذلك ذو أهمية بالغة في تكييف مشاعر البشر وتصورهم لكل شؤون الحياة.
والمؤمن بالله الواحد. المدرك لمعنى هذه الوحدانية، يكيف علاقته بربه على هذا الأساس، ويضع علاقته بمن عدا الله وبما عداه، في موضعها الذي لا تتعداه، فلا تتوزع طاقاته ومشاعره بين آلهة مختلفة الأمزجة! ولا بين متسلطين عليه غير الله من خلق الله!
والمؤمن بأن الله الواحد هو مصدر هذا الوجود الواحد يتعامل مع الوجود ومن فيه وما فيه على أساس من التعارف والتعاون والألفة والمودة، يجعل للحياة طعماً وشكلاً غير ما لها في نفس من لا يؤمن بهذه الوحدة، ولا يحسها بينه وبين كل ما حوله ومن حوله.
والمؤمن بوحدة الناموس الإلهي في الكون يتلقى تشريعات الله له وتوجيهاته تلقياً خاصاً، لينسق بين القانون الذي يحكم حياة البشر والناموس الذي يحكم الكون كله؛ ويؤثر قانون الله، لأنه هو الذي ينسق بين حركة البشر وحركة الكون العام.
وعلى الجملة فإن إدراك هذه الحقيقة ضروري لصلاح الضمير البشري واستقامته واستنارته وتصالحه مع الكون من حوله. وتنسيق حركته مع الحركة الكونية العامة. ووضوح الارتباطات بينه وبين خالقه. ثم بينه وبين الكون حوله. ثم بينه وبين كل ما في الكون من أحياء ومن أشياء! وما يتبع هذا من تأثرات أخلاقية وسلوكية واجتماعية وإنسانية عامة في كل مجال من مجالات الحياة.
ومن ثم كان هذا الحرص على إقرار عقيدة التوحيد. وكان هذا الجهد الموصول المكرور مع كل رسالة وكل رسول. وكان هذا الإصرار من الرسل صلوات الله عليهم على كلمة التوحيد بلا هوادة.
وفي القرآن الكريم يتضح الحرص والجهد والإصرار في تكرار عرض قضية التوحيد ومقتضياتها في السور المكية على وجه التخصيص وفي السور المدنية كذلك في صور تناسب طبيعة الموضوعات التي تعالجها السور المدنية.
وهذه هي الحقيقة التي كان المشركون يعجبون ذلك العجب من إصرار محمد صلى الله عليه وسلم عليها ويحاورونه فيها ويداورونه، ويعجبون الناس منه ومنها، ويصرفونهم عنها بكل وسيلة.
وقد مضوا بعد هذا يعجبون من اختياره صلى الله عليه وسلم ليكون رسولاً:
{أأنزل عليه الذكر من بيننا؟}..
وما كان في هذا من غرابة. ولكنه كان الحسد. الحسد الذي يدعو إلى العناد والمكابرة والشقاق.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه حدث، أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته. فأخذ كل رجل منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فتلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً. ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوه أول مرة. ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض. لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا.. فلما أصبح الأخنس ابن شريق أخذ عصاه، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها.
قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به كذلك! قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه في بيته، فقال: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه! فقام عنه الأخنس وتركه..
فهو الحسد كما نرى. يقعد بأبي جهل عن الاعتراف بالحق الذي غالب نفسه عليه فغلبته ثلاث ليال! هو الحسد أن يكون محمد قد بلغ إلى مالا مطمع فيه لطامع. وهو السر في قولة من كانوا يقولون:
{أأنزل عليه الذكر من بيننا؟}..
وهم الذين كانوا يقولون: {لولا نزِّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يقصدون بالقريتين مكة والطائف، وفيهما كان كبراء المشركين وعظماؤهم الحاكمون المسودون؛ الذين كانوا يتطلعون إلى السيادة عن طريق الدين، كلما سمعوا أن نبياً جديداً قد أطل زمانه. والذين صدموا صدمة الحسد والكبر حينما اختار الله على علم نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وفتح له أبواب رحمته وأفاض عليه من خزائنها ما علم أنه يستحقه دون العالمين.
ويرد على تساؤلهم ذاك رداً تفوح منه رائحة التهكم والإنذار والتهديد:
{بل هم في شك من ذكري. بل لما يذوقوا عذاب}..
إنهم يسألون: {أأنزل عليه الذكر من بيننا!}.. وهم في شك من الذكر ذاته، لم تستيقن نفوسهم أنه من عند الله؛ وإن كانوا يمارون في حقيقته، وهو فوق المألوف من قول البشر مما يعرفون.
ثم يضرب عن قولهم في الذكر، وعن شكهم فيه، ليستقبل بهم تهديداً بالعذاب، {بل لما يذوقوا عذاب}.. وكأنما ليقول: إنهم يقولون ما يقولون لأنهم في منجاة بعد من العذاب؛ فأما حين يذوقونه فلن يقولوا من هذا شيئاً، لأنهم حينئذ سيعرفون!
ثم يعقب على استكثارهم رحمة الله لمحمد في اختياره رسولاً من بينهم، بسؤالهم إن كانوا يملكون خزائن رحمة الله، حتى يتحكموا فيمن يعطون ومن يمنعون:
{أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟}..
ويندد بسوء أدبهم مع الله، وتدخلهم فيما ليس من شأن العبيد. والله يعطي من يشاء ويمنع من يريد. وهو العزيز القادر الذي لا يملك أحد أن يقف لإرادته. وهو الوهاب الكريم الذي لا ينفذ عطاؤه.
وهم يستكثرون على محمد صلى الله عليه وسلم أن يختاره الله. فبأي حق وبأية صفة يوزعون عطاء الله؟ وهم لا يملكون خزائن رحمته؟!
{أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما؟}.


هذا الدرس كله قصص وأمثلة من حياة الرسل صلوات الله عليهم تعرض كي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدع ما يعانيه من قومه من تكذيب واتهام وتعجيب وافتراء؛ ويصبر على ما يواجهونه به مما تضيق به الصدور.
وهذا القصص يعرض في الوقت ذاته آثار رحمة الله بالرسل قبله: وما أغدق عليهم من نعمة وفضل، وما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام. وذلك رداً على عجب قومه من اختيار الله له. وما هو ببدع من الرسل. وفيهم من آتاه الله إلى جانب الرسالة الملك والسلطان؛ وفيهم من سخر له الجبال يسبحن معه والطير؛ وفيهم من سخر له الريح والشياطين.. كداود وسليمان.. فما وجه العجب في أن يختار الله محمداً الصادق لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان؟
كذلك يصور هذا القصص رعاية الله الدائمة لرسله، وحياطتهم بتوجيهه وتأديبه. فقد كانوا بشراً كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم بشر وكان فيهم ضعف البشر. وكان الله يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم؛ إنما يبين لهم ويوجههم، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم. وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رعاية ربه له، وحمايته وحياطته في كل خطوة يخطوها في حياته.
{اصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا داود ذا الأيد، إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}..
{اصبر}.. إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل عليهم صلوات الله الطريق الذي يضمهم أجمعين. فكلهم سار في هذا الطريق. كلهم عانى. وكلهم ابتلي. وكلهم صبر. وكان الصبر هو زادهم جميعاً وطابعهم جميعاً. كل حسب درجته في سلم الأنبياء.. لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات؛ مفعمة بالآلام؛ وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكاً للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال..
ونستعرض حياة الرسل جميعاً كما قصها علينا القرآن الكريم فنرى الصبر كان قوامها، وكان العنصر البارز فيها. ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها..
لكأنما كانت تلك الحياة المختارة بل إنها لكذلك صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات؛ وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض؛ وتتجرد من الشهوات والمغريات؛ وتخلص لله وتنجح في امتحانه، وتختاره على كل شيء سواه.. ثم لتقول للبشرية في النهاية: هذا هو الطريق. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء، وإلى الارتفاع. هذا هو الطريق إلى الله.
{اصبر على ما يقولون}.. وقد قالوا: {هذا ساحر كذاب}.. وقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب}.. وقالوا: {أأنزل عليه الذكر من بيننا؟}.. وغير ذلك كثير. والله يوجه نبيه إلى الصبر على ما يقولون. ويوجهه إلى أن يعيش بقلبه مع نماذج أخرى غير هؤلاء الكفار. نماذج مستخلصة كريمة. هم إخوانه من الرسل الذين كان يذكرهم صلى الله عليه وسلم ويحس بالقرابة الوثيقة بينه وبينهم؛ ويتحدث عنهم حديث الأخوة والنسب والقرابة. وهو يقول.. رحم الله أخي فلاناً.. أو أنا أولى بفلان.
{اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب}..
يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب.. وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. وهم طغاة بغاة. كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب. فأما داود فقد كان ذا قوة، ولكنه كان أواباً، يرجع إلى ربه طائعاً تائباً عابداً ذاكراً. وهو القوي ذو الأيد والسلطان.
وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود، وظهوره في جيش طالوت، في بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله. فاختار لهم طالوت ملكاً. ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده. وقتل داود جالوت. وكان إذ ذاك فتى. ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه حتى ولي الملك أخيراً؛ وأصبح ذا سلطان. ولكنه كان أواباً رجاعاً إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.
ومع النبوة والملك آتاه الله من فضله قلباً ذاكراً وصوتاً رخيماً، يرجع به تراتيله التي يمجد فيها ربه. وبلغ من قوة استغراقه في الذكر، ومن حسن حظه في الترتيل، أن تزول الحواجز بين كيانه وكيان هذا الكون. وتتصل حقيقته بحقيقة الجبال والطير في صلتها كلها ببارئها، وتمجيدها له وعبادتها. فإذا الجبال تسبح معه، وإذا الطير مجموعة عليه، تسبح معه لمولاها ومولاه:
{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب}..
ولقد يقف الناس مدهوشين أمام هذا النبأ.. الجبال الجامدة تسبح مع داود بالعشي والإشراق، حينما يخلو إلى ربه، يرتل ترانيمه في تمجيده وذكره. والطير تتجمع على نغماته لتسمع له وترجع معه أناشيده.. لقد يقف الناس مدهوشين للنبأ، إذ يخالف مألوفهم، ويخالف ما اعتادوا أن يحسوه من العزلة بين جنس الإنسان، وجنس الطير، وجنس الجبال!
ولكن فيم الدهش؟ وفيم العجب؟ إن لهذه الخلائق كلها حقيقة واحدة. وراء تميز الأجناس والأشكال والصفات والسمات.. حقيقة واحدة يجتمعون فيها ببارئ الوجود كله: أحيائه وأشيائه جميعاً. وحين تصل صلة الإنسان بربه إلى درجة الخلوص والإشراق والصفاء، فإن تلك الحواجز تنزاح؛ وتنساح الحقيقة المجردة لكل منهم. فتتصل من وراء حواجز الجنس والشكل والصفة والسمة التي تميزهم وتعزلهم في مألوف الحياة!
وقد وهب الله عبده داود هذه الخاصية؛ وسخر الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.
وحشر عليه الطير ترجع مع ترانيمه تسبيحاً لله. وكانت هذه هبة فوق الملك والسلطان، مع النبوة والاستخلاص.
{وشددنا ملكه. وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}..
فكان ملكه قوياً عزيزاً. وكان يسوسه بالحكمة والحزم جميعاً. وفصل الخطاب قطعه والجزم فيه برأي لا تردد فيه. وذلك مع الحكم ومع القوة غاية الكمال في الحكم والسلطان في عالم الإنسان.
ومع هذا كله فقد تعرض داود للفتنة والابتلاء؛ وكان عين الله عليه لترعاه وتقود خطاه، وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه، وتوقيه خطر الطريق وتعلمه كيف يتوقاه:
{وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب؟ إذ دخلوا على داود ففزع منهم. قالوا: لا تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض. فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط. واهدنا إلى سواء الصراط. إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة، فقال: اكفلنيها، وعزني في الخطاب. قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه. فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب}..
وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك، كان يخصص بعض وقته للتصرف في شؤون الملك، وللقضاء بين الناس. ويخصص البعض الآخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحاً لله في المحراب. وكان إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه أحد حتى يخرج هو إلى الناس.
وفي ذات يوم فوجئ بشخصين يتسوران المحراب المغلق عليه. ففزع منهم. فما يتسور المحراب هكذا مؤمن ولا أمين! فبادرا يطمئنانه. {قالوا: لا تخف. خصمان بغى بعضنا على بعض}. وجئنا للتقاضي أمامك {فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط}.. وبدأ أحدهما فعرض خصومته: {إنَّ هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة. فقال: اكفلنيها} (أي اجعلها لي وفي ملكي وكفالتي) {وعزني في الخطاب} (أي شدد علي في القول وأغلظ).
والقضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلماً صارخاً مثيراً لا يحتمل التأويل. ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً، ولم يطلب إليه بياناً، ولم يسمع له حجة. ولكنه مضى يحكم: {قال: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه. وإن كثيراً من الخلطاء (أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض) ليبغي بعضهم على بعض. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم}..
ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان: فقد كانا ملكين جاءا للامتحان! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس، ليقضي بينهم بالحق والعدل، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم.
وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة.. ولكن القاضي عليه ألا يستثار، وعليه ألا يتعجل. وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد. قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته؛ فقد يتغير وجه المسألة كله، أو بعضه، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً!
عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء:
{وظن داود أنما فتناه}..
وهنا أدركته طبيعته.. إنه أواب.. {فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب}..
{فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.. وخاضت بعض التفاسير مع الإسرائيليات حول هذه الفتنة خوضاً كبيراً. تتنزه عنه طبيعة النبوة. ولا يتفق إطلاقاً مع حقيقتها. حتى الروايات التي حاولت تخفيف تلك الأساطير سارت معها شوطاً. وهي لا تصلح للنظر من الأساس. ولا تتفق مع قول الله تعالى: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}..
والتعقيب القرآني الذي جاء بعد القصة يكشف كذلك عن طبيعة الفتنة؛ ويحدد التوجيه المقصود بها من الله لعبده الذي ولاه القضاء والحكم بين الناس:
{يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض؛ فاحكم بين الناس بالحق. ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد. بما نسوا يوم الحساب}..
فهي الخلافة في الأرض، والحكم بين الناس بالحق، وعدم اتباع الهوى. واتباع الهوى فيما يختص بنبي هو السير مع الانفعال الأول، وعدم التريث والتثبت والتبين.. مما ينتهي مع الاستطراد فيه إلى الضلال. أما عقب الآية المصور لعاقبة الضلال فهو حكم عام مطلق على نتائج الضلال عن سبيل الله. وهو نسيان الله والتعرض للعذاب الشديد يوم الحساب.
ومن رعاية الله لعبده داود، أنه نبهه عند أول لفتة. ورده عند أول اندفاعة. وحذره النهاية البعيدة. وهو لم يخط إليها خطوة! وذلك فضل الله على المختارين من عباده. فهم ببشريتهم قد تعثر أقدامهم أقل عثرة، فيقيلها الله، ويأخذ بيدهم، ويعلمهم، ويوفقهم إلى الإنابة، ويغفر لهم، ويغدق عليهم، بعد الابتلاء..
وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض، وفي الحكم بين الناس.. وقيل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق.. يرد هذا الحق إلى أصله الكبير. أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما. أصله العريق في كيان هذا الكون كله. وهو أشمل من خلافة الأرض، ومن الحكم بين الناس. وهو أكبر من هذه الأرض. كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا. إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة. ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير:
{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً. ذلك ظن الذين كفروا. فويل للذين كفروا من النار. أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؟ أم نجعل المتقين كالفجار؟ كتاب أنزلناه إليك مبارك، ليدبروا آياته، وليتذكر أولوا الألباب}.
وهكذا: في هذه الآيات الثلاث، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة. بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها..
إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً، ولم يقم على الباطل. إنما كان حقاً وقام على الحق. ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق. الحق في خلافة الأرض. والحق في الحكم بين الخلق. والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار. والحق الذي جا به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة، التي لا يتصورها الكافرون، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئاً.. {ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار}..
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون. وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس. وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف. وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض؛ وهو أمر عظيم إذن، وشر كبير، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق. فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود.. ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة!
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب..
وبعد هذا التعقيب المعترض في صلب القصة لكشف تلك الحقيقة الضخمة، يمضي السياق يعرض نعمة الله على داود في عقبه وولده سليمان؛ وما وهبه الله من ألوان الإنعام والإفضال. كما يعرض فتنته وابتلاءه ورعاية الله له، وإغداقه عليه بعد الفتنة والابتلاء:
{ووهبنا لداود سليمان. نعم العبد. إنه أواب. إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد. فقال: إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب. ردوها عليّ. فطفق مسحاً بالسوق والأعناق. ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب. قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي، إنك أنت الوهاب. فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الأصفاد. هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}..
والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة. وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان.
كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما. فهي إما إسرائيليات منكرة، وإما تأويلات لا سند لها. ولم أستطع أن أتصور طبيعة الحادثين تصوراً يطمئن إليه قلبي، فأصوره هنا وأحكيه. ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسيرهما وتصويرهما سوى حديث صحيح. صحيح في ذاته ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. هذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً. ونصه: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله. ولم يقل: إن شاء الله. فطاف عليهن فلم يحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده، لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون. وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات هنا، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق. ولكن هذا مجرد احتمال.. أما قصة الخيل فقيل: إن سليمان عليه السلام استعرض خيلاً له بالعشي. ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب. فقال ردوها عليّ. فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراماً لها لأنها كانت خيلاً في سبيل الله.. وكلتا الروايتين لا دليل عليها. ويصعب الجزم بشيء عنها.
ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئاً عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن.
وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان عليه السلام في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم، ويبعد خطاهم عن الزلل. وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع. وطلب المغفرة؛ واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء:
{قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب}..
وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان عليه السلام أنه لم يرد به أثرة. إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة. فقد أراد به النوع. أراد به ملكاً ذا خصوصية تميزه من كل ملك آخر يأتي بعده. وذا طبيعة معينة ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس.
وقد استجاب له ربه، فأعطاه فوق الملك المعهود، ملكاً خاصاً لا يتكرر:
{فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب. والشياطين كل بناء وغواص. وآخرين مقرنين في الأصفاد}.
وتسخير الريح لعبد من عباد الله بإذن الله؛ لا يخرج في طبيعته عن تسخير الريح لإرادة الله. وهي مسخرة لإرادته تعالى ولا شك، تجري بأمره وفق نواميسه؛ فإذا يسر الله لعبد من عباده في فترة من الفترات أن يعبر عن إرادة الله سبحانه وأن يوافق أمره أمر الله فيها؛ وأن تجري الريح رخاء حيث أراد؛ فذلك أمر ليس على الله بمستبعد.
ومثله يقع في صور شتى. والله سبحانه يقول في القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً} فما معنى هذا؟ معناه أنهم إذا لم ينتهوا فستتجه إرادتنا إلى تسليطك عليهم وإخراجهم من المدينة. وسيتم هذا بتوجيه إرادتك أنت ورغبتك إلى قتالهم وإخراجهم؛ فتتم إرادتنا بهم عن طريقك. فهذا لون من توافق أمر الله سبحانه وأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإرادة الله وأمره هما الأصيلان. وهما يتجليان في إرادة الرسول وأمره وفق ما أراد الله. وهذا يقرب إلينا معنى الريح لأمر سليمان عليه السلام تسخيرها لأمره المطابق لأمر الله في توجيه هذه الرياح، الممثل لأمر الله المعبر عنه على كل حال.
كذلك سخر له الشياطين لتبني له ما يشاء؛ وتغوص له في البحر والأرض في طلب ما يشاء. وأعطاه السلطة لعقاب المخالفين والمفسدين ممن سخرهم له وتكبيلهم بالأصفاد مقرونة أيديهم إلى أرجلهم. أو مقرنين اثنين اثنين أو أكثر في القيود عند الاقتضاء.
ثم قيل له: إنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة. تعطي من تشاء كيف تشاء. وتمسك عمن تشاء قدر ما تشاء:
{هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب}..
وذلك زيادة في الإكرام والمنة. ثم زاد على هذا كله أن له عند ربه قربى في الدنيا وحسن مآب في الآخرة:
{وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}..
وتلك درجة عظيمة من الرعاية والرضى والإنعام والتكريم.
ثم نمضي مع قصة الابتلاء والصبر، والإنعام بعد ذلك والإفضال. نمضي في السياق مع قصة أيوب:
{واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب. اركض برجلك. هذا مغتسل بارد وشراب. ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب. وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب}..
وقصة ابتلاء أيوب وصبره ذائعة مشهورة؛ وهي تضرب مثلاً للابتلاء والصبر. ولكنها مشوبة بإسرائيليات تطغى عليها. والحد المأمون في هذه القصة هو أن أيوب عليه السلام كان كما جاء في القرآن عبداً صالحاً أوّاباً؛ وقد ابتلاه الله فصبر صبراً جميلاً، ويبدو أن ابتلاءه كان بذهاب المال والأهل والصحة جميعاً ولكنه ظل على صلته بربه، وثقته به، ورضاه بما قسم له.
وكان الشيطان يوسوس لخلصائه القلائل الذين بقوا على وفائهم له ومنهم زوجته بأن الله لو كان يحب أيوب ما ابتلاه.
وكانوا يحدثونه بهذا فيؤذيه في نفسه أشد مما يؤذيه الضر والبلاء. فلما حدثته امرأته ببعض هذه الوسوسة حلف لئن شفاه الله ليضربنها عدداً عينه قيل مائة.
وعندئذ توجه إلى ربه بالشكوى مما يلقى من إيذاء الشيطان، ومداخله إلى نفوس خلصائه، ووقع هذا الإيذاء في نفسه:
{أني مسني الشيطان بنصب وعذاب}..
فلما عرف ربه منه صدقه وصبره، ونفوره من محاولات الشيطان، وتأذيه بها، أدركه برحمته. وأنهى ابتلاءه، ورد عليه عافيته. إذ أمره أن يضرب الأرض بقدمه فتتفجر عين باردة يغتسل منها ويشرب فيشفى ويبرأ:
{اركض برجلك. هذا مغتسل بارد وشراب}..
ويقول القرآن الكريم:
{ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب}..
وتقول بعض الروايات: إن الله أحيا له أبناءه ووهب له مثلهم، وليس في النص ما يحتم أنه أحيا له من مات. وقد يكون معناه أنه بعودته إلى الصحة والعافية قد استرد أهله الذين كانوا بالنسبة إليه كالمفقودين. وأنه رزقه بغيرهم زيادة في الإنعام والرحمة والرعاية. مما يصلح ذكرى لذوي العقول والإدراك.
والمهم في معرض القصص هنا هو تصوير رحمة الله وفضله على عباده الذين يبتليهم فيصبرون على بلائه وترضى نفوسهم بقضائه.
فأما قسمه ليضربن زوجه. فرحمة من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته وصبرت على بلائه وبلائها به، أمره الله أن يأخذ مجموعة من العيدان بالعدد الذي حدده. فيضربها به ضربة واحدة. تجزئ عن يمينه، فلا يحنث فيها:
{وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث}..
هذا التيسير، وذلك الإنعام، كانا جزاء على ما علمه الله من عبده أيوب من الصبر على البلاء وحسن الطاعة والالتجاء:
{إنا وجدناه صابراً، نعم العبد، إنه أوّاب}..
وبعد عرض هذه القصص الثلاثة بشيء من التفصيل؛ ليذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصبر على ما يلاقيه. يجمل السياق الإشارة إلى مجموعة من الرسل. في قصصهم من البلاء والصبر، ومن الإنعام والإفضال، ما في قصص داود وسليمان وأيوب عليهم السلام ومنهم سابقون على هؤلاء معروف زمانهم. ومنهم من لا نعرف زمانه، لأن القرآن والمصادر المؤكدة لدينا لم تحدده:
{واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار. إنا أخلصناهم بخالصةٍ ذكرى الدار. وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار. واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار..}.
وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وكذلك إسماعيل كانوا قبل داود وسليمان قطعاً. ولكن لا نعرف أين هم من زمان أيوب. وكذلك اليسع وذو الكفل. ولم يرد عنهما في القرآن إلا إشارات سريعة. وهناك نبي من أنبياء بني إسرائيل اسمه بالعبرية: إليشع وهو اليسع بالعربية على وجه الترجيح. فأما ذو الكفل فلا نعرف عنه شيئاً إلا صفته هذه {من الأخيار}.


كانت الجولة الماضية حياة وذكرى مع المختارين من عباد الله. مع الابتلاء والصبر. والرحمة والإفضال. كان هذا ذكراً لتلك الحيوات الرفيعة في الأرض وفي هذه الدنيا.. ثم يتابع السياق خطاه مع عباد الله المتقين، ومع المكذبين الطاغين إلى العالم الآخر وفي الحياة الباقية.. يتابعه في مشهد من مشاهد القيامة نستعير لعرضه صفحات من كتاب مشاهد القيامة في القرآن مع تصرف قليل:
يبدأ المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع وفي الأجزاء، وفي السمات والهيئات: منظر {المتقين} لهم {حسن مآب}. ومنظر {الطاغين} لهم {شر مآب}. فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحة لهم الأبواب. ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعة الطعام والشراب. ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب. وهن مع شبابهن {قاصرات الطرف} لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن. وكلهن شواب أتراب. وهو متاع دائم ورزق من عند الله {ما له من نفاد}.
وأما الآخرون فلهم مهاد. ولكن لا راحة فيه. إنه جهنم {فبئس المهاد}! ولهم فيه شراب ساخن وطعام مقيئ. إنه ما يغسق ويسيل من أهل النار! أو لهم صنوف أخرى من جنس هذا العذاب. يعبر عنها بأنها {أزواج}!
ثم يتم المشهد بمنظر ثالث حي شاخص بما فيه من حوار: فها هي ذي جماعة من أولئك الطاغين من أهل جهنم. كانت في الدنيا متوادة متحابة. فهي اليوم متناكرة متنابذة كان بعضهم يملي لبعض في الضلال. وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين، ويهزأ من دعوتهم ودعواهم في النعيم. كما يصنع الملأ من قريش وهم يقولون:
{أأنزل عليه الذكر من بيننا؟}..
ها هم أولاء يقتحمون النار فوجاً بعد فوج وها هم أولاء يقول بعضهم لبعض: {هذا فوج مقتحم معكم}.. فماذا يكون الجواب؟ يكون الجواب في إندفاع وحنق: {لا مرحباً بهم إنهم صالوا النار}! فهل يسكت المشتومون؟ كلا! إنهم يردون: {قالوا: بل أنتم لا مرحباً بكم. أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار!}.. فلقد كنتم أنتم السبب في هذا العذاب. وإذا دعوة فيها الحنق والضيق والانتقام: {قالوا: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار}!
ثم ماذا؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا، ويظنون بهم شراً، ويسخرون من دعواهم في النعيم. ها هم أولاء يفتقدونهم فلا يرونهم معهم مقتحمين في النار، فيستاءلون: أين هم؟ أين ذهبوا؟ أم تراهم هنا ولكن زاغت عنهم أبصارنا؟: {وقالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً؟ أم زاغت عنهم الأبصار؟}.. بينما هؤلاء الرجال الذين يتساءلون عنهم هناك في الجنان!
ويختم المشهد بتقرير واقع أهل النار:
{إن ذلك لحق تخاصم أهل النار}!!
فما أبعد مصيرهم عن مصير المتقين. الذين كانوا يسخرون منهم، ويستكثرون اختيار الله لهم. وما أبأس نصيبهم الذي كانوا يستعجلون به وهم يقولون: {ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب}

1 | 2